أغسطس 30، 2011

ما هي السلطة - ميخائيل باكونين


ما هي السلطة
ميخائيل باكونين

تعريب: جوزف أيوب

ما هي السلطة؟ هل هي قوة حتمية للقوانين الطبيعية التي تعبر عن نفسها في روابط ضرورية وتعاقب للظواهر في العالمين المادي والاجتماعي؟ في الواقع، الثورة على هذه القوانين ليست فقط محرمة – بل حتى مستحيلة. قد نسيء فهمها أو حتى لا يمكننا معرفتها على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع أن نعصيها؛ لأنها تشكل الأساس، وهي الشروط الأساسية لوجودنا – هي تحيطنا، تتغلغل فينا، تنظم جميع تحركاتنا، أفكارنا وأعمالنا، حتى عندما نعتقد أننا نعصيها، لا نظهر سوى سلطتها المطلقة.

نعم، نحن وعلى نحو جازم عبيد لهذه القوانين. لكن في مثل هذه العبودية لا وجود للذل، أو بالأحرى، إنها ليست عبودية على الإطلاق. في العبودية يُفترض سيد خارجي، وهو مشرّع من الخارج- يصدر الأوامر، في حين أن هذه القوانين ليست خارجه عنا، فهي متأصلة فينا، بل تشكل وجودنا، وجودنا كله، جسديا، فكريا، وأخلاقيا، نعيش، نتنفس، نفعل، نفكر، ونرغب فقط من خلال هذه القوانين. بدونها نحن لا شيء، لا نكون. من أين يمكن إذن، أن نستمد القوة والرغبة للتمرد عليها؟

في علاقته مع القوانين الطبيعية – حيث تبقى حرية الإنسان ممكنة، وذلك بالإقرار وتطبيق هذه القوانين على أوسع نطاق – انسجاماً مع التحرر (الفردي والجماعي) من الأنسنة التي يسعى إليها الانسان. بمجرد ادراك هذه القوانين، تمارَس سلطة لن يتنازع فئة من الناس عليها. على المرء، مثلاً، أن يكون الإنسان إما أحمقاً أو لاهوتي او على الاقل ماورائي، قانوني أو برجوازي اقتصادي لكي يتمرد على القانون. عليه أن يمتلك ايمان لكي يتصور أن النار لن تحرق والمياه لن تغرق، فيما عدا، يمكن اللجوء إلى بعض الحيل التي تأسست بدورها على بعض القوانين الطبيعية الأخرى. غير أن هذا التمرد، أو بالأحرى، هذه المحاولات والاهواء الحمقاء للتمرد هي أمر مستحيل، هو بالتأكيد استثناء لما هو بشكلٍ عام، اعتراف لفئة من الناس بالحكومة في حياتهم اليومية – وهذا هو، مجموع القوانين العامة المعترف بها عموما – بطريقة شبه مطلقة.

لسوء الحظ أن عددا كبيرا من القوانين الطبيعية، التي تأسست من قبل العلم، لا تزال غير معروفة لدى الجماهير، وذلك بفضل سهر حكومات الوصاية تلك التي وجدت، كما نعلم، فقط من أجل خير الشعب. هناك صعوبة أخرى – هي أن جزءاً كبيراً من القوانين الطبيعية مرتبطة مع تطور المجتمع البشري، التي هي إلى حد بعيد ضرورية، ثابتة، مهلكة، كالقوانين التي تحكم العالم المادي، لم تنشئ ويعترف بها من قبل العلم نفسه على نحو واجب.

إن أُدركت هذه القوانين – لمرة واحدة – من قبل العلم، وبواسطة العلم تحولت إلى وعي لدى كل انسان (من خلال نظام واسع في التعليم والارشاد الشعبي) وسيتم حل مسألة الحرية تماما. حينئذ يجب على السلطات الأكثر عناداً أن تعترف بأن لا حاجة إلى تنظيم سياسي أو لوضع تشريعات. ثلاثة أشياء مرتبطة بهذه السلطة: سواء انبثقت من إرادة سيادية أو من تصويت لبرلمان (انتخب بالاقتراع العام)، أو حتى مطابقتها لنظام قوانين الطبيعة – التي لم تكن يوما كذلك ولن تكون أبداً – هي دائماً قاتلة ومعادية لحرية الجماهير حيث أنها في الحقيقة تفرض نظاماً خارجياً، وبالتالي قوانين مستبدة.
إن حرية الإنسان تستند فقط على: أن يطيع قوانين الطبيعة، لأنه هو نفسه يعترف بها على هذا النحو، وليس لأنها تفرض نفسها عليه بأي ارادة خارجية، الهية أو بشرية كانت، جماعية أو فردية.

لنفترض أكاديمية تتألف من معظم ممثلي العلوم؛ وأن هذه الأكاديمية مكلّفة بتشريع وتنظيم المجتمع، في حين هذه التشريعات ليست مستوحاة إلا من محبة الحقيقة، ستكون هذه التشريعات في انسجام مطلق مع أحدث الاكتشافات العلمية. حسناً، من جهتي، هذا التنظيم والتشريعات ستكون كالمسخ، وذلك لسببين: أولاً، أن العلوم الإنسانية هي دائماً وبالضرورة ناقصة، وذلك مقارنة لما اكتشف مع ما تبقى ليُكتشف، حيث يمكن القول انها لا تزال في مهدها. وهكذا لكي تتبدل حياة الانسان العملية، جماعة أم فردًا، إلى التزام دقيق وحصري يترافق مع أحدث البيانات العلمية، علينا أن ندين المجتمع كما الأفراد لكي يعانوا الاستشهاد على سرير بروكرستس ، التي ستنتهي قريباً مؤلمة وخانقة لهم، حيث تبقى الحياة أعظم من العلم في أي وقت مضى.

السبب الثاني: المجتمع الذي يجب أن يطيع التشريعات المنبثقة من أكاديمية علمية، ليس لأنه مدرك هذا الطابع العقلاني لهذا التشريع (في هذه الحالة وجود الأكاديمية تصبح عديمة الفائدة) ولكن لأن هذا التشريع المنبثق من الأكاديمية، كان المفروض باسم العلم أن يقدّس دون فهمه. مثل هذا المجتمع سيكون مجتمعا، ليس للإنسان، بل للبهائم. ستكون حالة أخرى من تلك البعثات اليسوعية التي أرسلت إلى حكومة الباراغواي لوقت طويل . وبالتأكيد فإنها ستنحدر بسرعة إلى أدنى مراحل البلاهة.

يبقى هناك سبب ثالث وهو ما يجعل من المستحيل تشكيل مثل هذه الحكومة، بمعنى تلك الأكاديمية العلمية الممولة سيادياً،إذا جاز التعبير، بشكلٍ مطلق، وحتى لو كانت تتألف من ألمع الأشخاص، بحيث انها بالتأكيد سوف تنتهي من تلقاء نفسها في الفساد الأخلاقي والفكري.وحتى اليوم، هذا هو حال كل الأكاديميات مع بعض المزايا قليلة الممنوحة لها. بشكل حتمي، أعظم العباقرة العلميين منذ لحظة أن يصبح أكاديمياً يسقط في هفوات الخمول. ويفقد تلقائيته وعفويته، صلابته الثورية، وطاقته الوحشية لتحقيق عبقريته، وقدرته على تدمير العالم القديم وإرساء أسس جديدة. بدون شكأن كل ما يكتسبه من كياسة وحنكة نفعية وعملية هو ما يخسره من قوة فكره. في كلمة واحدة، سيصبح فاسداً.

هذا هي سمة الامتياز وكل مكانة ذات امتياز هي قاتلة لعقل وقلب الانسان. الانسان ذو امتياز، سواء كان اقتصاديا أو عمليا، هو رجل فسد في العقل والقلب. هذا هو القانون الاجتماعي الذي لا يقبل أي استثناء، كما على الطبقات ينطبق على كل الدول، متعاونين أومنفردين. ذلك هو قانون المساواة، الشرط الأعلى للحرية والإنسانية. المبدأ الاساسي لهذه الدراسة هو بالضبط شرح هذه الحقيقة في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية.

هذا الجسم العلمي الموثوق من قبل الحكومة سوف ينتهي قريبا من خلال تكريس نفسه ليس للعلم، بل من أجل شأنا آخر تماما: هو أن القضية ، كما هو الحال بالنسبة لجميع السلطات المتأسسة، ستبحث عن الدوام الأبدي من خلال تقديم مجتمع يتعهد أكثر من أي وقت مضى لرعاية الغباء وبالتالي في حاجة إلى المزيد من بسط حكومته واتجاها.

ولكن ما هو يصدق على الأكاديميات العلمية يصدق أيضا على جميع المجالس التأسيسية والتشريعية، وحتى على الذين وقع عليهم الاختيار عن طريق الاقتراع العام. في الحالة الأخيرة قد يجددوا مناصبهم، هذا صحيح، ولكن هذا لا يمنع في غضون سنوات قليلة من تشكيل مجموعة من السياسيين والسياديين في الواقع وإن لم يكن في القانون، مكرسين انفسهم للشؤون العامة للبلد حصراً، في النهاية يشكلوا نوعا من الارستقراطية السياسية أو الأوليغارشية. وهذا ما تشهده الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا.

وبالتالي في هذه المسألة لا يمكن فصل أي تشريع خارجي عن أي سلطة، وكلاهما يميل إلى عبودية المجتمع، وتدهور المشرعين أنفسهم.

هل نستنتج من ذلك أنني أرفض كل أنواع السلطة؟ انها بعيدة عن تفكيري. فيما خص الأحذية، أفضل سلطة صانع الأحذية – المنازل، القنوات، أو السكك الحديدية ، أستشير كل من المهندس المعماري أو المهندس. لكل معرفة خاصة اناسها. ولكن لا أسمح لصانع أحذية أو لمهندس موهوب من أن يفرض سلطته علي. أستمع لهم بحرية وبكل احترام وذلك بسبب ذكائهم، طابعهم، معرفتهم، محتفظا دائما على حق النقاش، النقد، واللوم. أنا لا أكتفي باستشارة سلطة واحدة في أي فرع خاص، اقوم باستشارة عدد من المختصين؛ أقارن آرائهم، واختار تلك التي تبدو الأصح. لكنني على يقين بلا وجود سلطة معصومة، حتى في المسائل الخاصة، وبالتالي، مهما اكن احتراماً لنزاهة وصدق هكذا افراد ، لا يوجد لدي ثقة مطلقة في أي انسان. هكذا إيمان هو قاتل للمنطق والعقل، للحرية، وحتى بالنسبة لنجاح المستقبل، بل سيحولني فورا إلى عبد غبي، واتحول أداة لإرادة ومصالح الآخرين.

إلى حد معين، وطالما يبدو ذلك ضرورياً، فإذا أنحنيت أمام سلطة متخصصين وابدي استعدادي لتبعية ارشاداتهم وكذلك توجهاتهم، وذلك لأن سلطتهم فرضت علي ليس من قبل أحد، لا من قبل انسان ولا من قبل الله. وإلا أرفضها برعب، وأدعو الشيطان للأخذ بنصيحتهم، توجهاتهم، كذلك خدماتهم ، حينئذٍ مؤكداً سأدفع الثمن، من جراء فقدان حريتي واحترامي لذاتي، من أجل قصاصات من الحقيقة، مغلفة في أكاذيب، قد تعطى لي.

أنحني أمام سلطة ناس مختصة لأنها فرضت من قبل عقلي. وأدرك عدم قدرتي على الفهم والتطور، في كل تفاصيل المعرفة الإنسانية. فالاكثر ذكاءاً لا يستطيع فهم الكل. لهذا السبب – كما للعلم كذلك بالنسبة للصناعة – هناك ضرورة لشراكة وتقسيم العمل. الأخذ والعطاء هي الحياة البشرية. الكل يوّجه ويتوجه بدوره. فليس هناك سلطة ثابتة ومستمرة، بل هناك تبادل مستمر للسلطة، وفوق كل شيء هذه السلطة هي طوعية وتبعية.

إذن، هذا السبب نفسه يمنعني أن أعترف بسلطة ثابتة، دائمة، وشاملة، لأنه لا يوجد انسان عالمي، أي انسان قادر على استيعاب كل التفاصيل، والتي بدونها يستحيل تطبيق العلم في الحياة، كل العلوم وجميع فروع الحياة الاجتماعية. وإذا تحققت مثل هذه العالمية في انسان واحد، لفرض سلطته علينا، سيكون من الضروري دفع هذا الانسان للخروج من المجتمع، لأن سلطته حتما من شأنها أن تضع الآخرين في العبودية والبلاهة. لا أعتقد على المجتمع أن يسيء معاملة اصحاب الفكر كما فعلت حتى الآن، ولكن أيضاً لا أعتقد أن يذهبوا بعيدا في ذلك، ناهيك عن منحهم أي امتيازات أو حقوق حصرية، وذلك لثلاثة أسباب: أولاً، لأنه في كثير من الأحيان الانسان الدجال لن يكون عبقرياً، ثانياً: لأنه من خلال مثل هذا النظام من الامتيازات، فإنه قد يتحول الانسان العبقري إلى دجال، ويهتز أركانه، وتفسد اخلاقه، وأخيراً: لأن من شأنه إقامة سيد فوق نفسه.

يوليو 09، 2011

نسبية الشعر - مايكل وورتن





نسبيّةُ الشعر
جزء من مقدمة مايكل وورتن لكتاب رينه شار "زوّار الفجر"
ترجمة فهيمة جعفر

...
شاعريّاً يهيم الإنسانُ في الأرضرغم كونهِ مترعاً بالفضائل.
فريدريك هولدرلين


فضائلُ الشعراءِ مملةٌ كما هي مملةٌ فضائلُ البشر.
والاس ستيفينز


...

...

يتمحور مجمل الشعر حول علاقة محمومة – ويائسة أحياناً – مع العالم. بالنسبةِ إلى رينه شار، تصبحُ هذه العلاقةُ محمّلةً بالغضبِ كما هي محمّلةٌ بالأمل. إن كانَ يعنِّفُ البشرِ لجبنهم وَعدم إخلاصهم للآخرين، فلطالما استخدمَ أيضاً صوراً دالةً على النضج (الشرنقةَ التي تصبحُ فراشةً، البذرةَ نبتةً، الزهرةَ ثمرةً) . يحِبُّ أقرانهُ دونَ رأفة، دونَ أوهامٍ أو ضلالات... وَبصرامةٍ دائماً. كما ذكرتُ سابقاً، هو يحيا وَيخطُّ حالةً من "التفاؤلِ اليائس"، حالةً يكون فيها التفاؤل واليأس لا طرفا حربٍ بل متواليان في حلَقَةٍ تدفعه وَتدفعنا تجاه خلقِ عالَمٍ سيدركُ أخيراً سموَّهُ المتأصّل فيه. على الرغمِ من ذلك، يكتبُ الشاعرُ دائماً لشخصٍ آخر، لقارئٍ مجهول. ها هنا تكمنُ عظمتهُ.. وعزلته.
تعتبرُ قصيدةُ الحبِّ تقليدياً احتفاءً بعلاقةٍ ما، تحققت أم لا، حقيقةً كانت أم وحي خيال. في قصائدِ حبّه يترنّمُ شار بالتواطؤ الجنسيِّ وَالعاطفي ("حبّه خفيةً/ 'L'amoureuse en secret' وَ "خطابٌ إلى النهر/'Recours au ruisseau' ) وَينعى الغياب ("زجاج النافذة/ 'Le carreau) وَيحذّر من الغيرة (مرجان/ Corail)؛ وَيتناولُ الحاجةَ إلى مشاركةِ تجربة الحُبِّ الزائل معَ الآخرين، أصدقاء كانوا أم قرّاء (أنوكيس وما بعد جان/'Anoukis et plus tard Jeanne')؛ وَيتحدّى النرجسية التي هي في صميمِ كثيرٍ من الحُبِّ وَالشعر ('À la désespérade')؛ كُلُّها أمور عاشها الشاعر، وَكلّها تلتقي إلى حدٍ بعيدٍ معَ أعمالِ شعراء حُبٍّ فرنسيين كبار من أمثال رونزار وَبودلير وإيلوار. غير أنَّ المحبوبةَ في قصائدِ الحب الشاريّة (نسبةً إلى شار) ليست محورَ فكره وَكتابته وَلا ذريعتهما، بل هي دائماً جزءٌ من رغبته في فهمِ وَوصفِ الوجودِ بما ينطوي عليه من اختلافاتٍ متشعّبة. أَحَبَّ شار وأُحِبَّ من قبل نساءٍ عدّة، منذ اكتشاف البياضِ الجميل لنهدِ مربيته الإيطالية في الطفولة وَحتى وفاته– إلى درجةِ أن يكتب أحد أصدقائه أن قائمة عشيقاته تطولُ لتتجاوزَ قائمةَ كازنوفا ! كانت النسوة الحبيبات وَالمُحِبّات بالغاتِ الأهمية بالنسبةِ إلى حياة الشاعرِ الشخصية وَسعادته، لكنهن يصبحن في كتاباته صُوراً شعريةً لا تختلفُ وظيفتها بحالٍ عن وظيفةِ الحيوان والأنهارِ و النباتِ و الشجر: أنْ تلفتَ القارئ إلى كونِ جميعِ أوجه الحياة مرتبطة بعضها ببعض، أنَّ الجوهرَ الأسمى لكلِّ علاقةٍ هو وجودنا الكامن فيها.
رُغم أن شار أحبَّ كثيراً وبشدَّة، إلا أن تمثيله الشعريَّ للمرأة يتّسمُ بالشوفينية. تنتهي (مظهرٌ زفافيّ/ Le Visage nuptial ) على هذا النحو: "ها الرملُ مَيْتٌ، الجسدُ مستعاد/ تتنفّسُ المرأة، يقفُ الرجلُ منتصباً". كما في الحقلِ في ('Louis Curel de la Sorgue') يتمُّ إنقاذُ الجسد، العاشقُ منتصبٌ عموديّاً، بينما العاشقةُ "تتنفّسُ" أفقيةً وَمؤسلبة. ما من شكٍ في أن شار يعدُّ النساءَ أدنى مرتبة، فجنسانيّته هادئة وواثقة بقدرِ ما هي مطلقة. وهو يرى إلى نفسه كمحررٍ لأولئكِ اللاتي أحبّ، مانحاً إياهنَّ انطلاقةَ الشعرِ وَانطلاقةَ الإيروسيّة، وفوق هذا وذاك تحريرهنَّ من قيودِ قوانين المجتمعِ ومتطلبّاته. إنْ يكتب شار عن الحبّ، فَدوماً، لكي يتناولَ الشهوة التي ينبغي أن تظلَّ شهوةً دونَ الإنزلاقِ إلى طريقِ التكرارِ والإخلاص والزواج، – وبالطبع- إلى طريقِ الأبوّة كما هي الحال مع بودلير وساد. هو يعجزُ عن حُبِّ طاقاتِ المرأةِ التناسلية، وواقعاً، تَصَوّره للشهوة ذكوريٌّ في جوهره. بالنسبةِ إليه كما بالنسبةِ إلى العديدِ من السورياليين، تبدو المواجهاتُ أفضلَ حالَ الفَرّ – أشبه بوميضِ برق: وهنا تكمنُ قوّتها وديمومتها. في ذلك يكتب: "الصديقُ الذي يبقى ليسَ بأفضلَ من الصديق الذي يرحل، الإخلاصُ منطقةٌ محتلَّة". يتردد هنا صدى أمثولة "الإبن الضال" غير أن الأهم هو في ما يذهب إليه من أنه لا داعي للإخلاص الجنسيّ، فكلمةَ الإخلاص العليا للمثلِ الخُلُقية.
قصيدة "أنوكيس وما بعدَ جان/ 'Anoukis et plus tard Jeanne' " واحدةٌ من أجملِ قصائد شار في الحُبِّ وأخصبها، وأيضاً من أشدّها إلهاماً . هي قصيدةٌ تحتفلُ بالحُبّ، وتقليديّةٌ في ترنّمها بمدائحِ المحبوبةِ التي يريدُ الشاعر أن يتشاركها "شعريّاً" مع الآخرين. وهي أنموذجٌ "شاريٌّ" في إصرارها على أن الحب يؤدي إلى التقاطعِ مع الطبيعةِ والفولكلور. تمثّلُ أنوكيس في الأساطير البروفنسية، الإلهةَ التي تحرسُ انعطافةَ الأنهارِ وَتجسِّدُ القدرَ امرأةً تقتلُ ضحاياها بمعانقتهم. لا يمكنُ إدراكُ قوّة القصيدة كاملةً إلا بمعرفةِ شيءٍ عن مصدرها. اكتشفَ "بول فين" في أحاديثَ مع شار، أن الأخيرَ مرَّ فعلاً بتجربةٍ معَ مثالٍ "أنوكيسيّ"؛ "جان"، وَقد انزلقَ بخفّةٍ إلى علاقةٍ جنسيّةٍ معها. وبشكل يثير مزيداً من الإضطراب، يقدِّمُ "فين" بعض تفاصيل نهايةِ هذه التجربة. أحد أصدقاء شار من الرسامين رآها وَتقدَّم إليه بالطلبِ التالي: "أعطني إياها يا رينه، فأنا أحبّها جداً" ، فـَ"أعطاه" شار إياها.
إنّ المشاركةَ الشعريّةَ محلُّ تقدير، في حينِ أن المشاركة الحقيقية للنساءِ من طريقِ "إعطائهنَّ" للأصدقاء هي محلُّ إشكال، أو بالأحرى مخزيةٌ، إذ تنطوي على افتراضِ أنَّ النساءَ ملكيّةٌ مسجلةٌ للرجالِ وفي وسعهم التخلّص منهنَّ كيفما شاؤوا. يثيرُ الأصل القصصي للنصِّ إزعاجاً لدى أيّ مؤمنٍ بالمساواةِ الجنسية، وَسيصدم الكثير منا بحقيقةِ أن ليس بين يدَي "فين" معلوماتٍ يقدّمها حول ردّة فعلِ المرأة. على كلٍ، تفصحُ القصيدةُ ذاتها عن تسامٍ بالتجربةِ الفرديّة. أنوكيس هي جان، شقيقةُ أعزِّ أصدقائه، إلهةٌ، قدرُه، كلُّ النساءِ متمثلاتٍ في امرأة، تجسيدٌ للنساء. يمكنُ حُبُّها والتغنّي بها في قصيدةٍ، إذا -وفقط إذا- أمكنَ نبذُها وتمّ، لتستحيلَ بذلكَ صورةً، رمزاً. على غرار قصائد بودلير، لطالما فُسّرت قصائد شار في الحب بأنها قصائد مكتوبة لأجلِ وَحولَ نساءٍ بعينهنّ، لكنّ نظرةً عن كثبٍ ستكشفُ لنا أن الشعر حبُّه الأول وَالأخير— وَهذا ما يحيلُ القَصَصي وَالسِيري إلى الأنموذجيّ وَالأسطوري. في صميم فكرهِ الشعريّ وَالثقافي وَالإيروتيكي، يقعُ الإيمان بأن " القصيدةَ هي تحقيقُ حُبٍّ يؤكّد الشهوةَ كشهوة."
الشعر، الجمال، الطبيعة، الحب، الشهوة، العدالة: هذه هي القوى التي ينبني عليها كونُ شار، وَكلٌّ منها ينطوي على عنف. لقد مرَّ الشاعرُ بتجارب عنفٍ منذ اللحظة التي أبصرَ فيها العالم وَتواصلَ معه: عنف أمّه العاطفيّ، تسلّط أخيه الأكبر الجسدي، عنفُ الفلاّح الضروريّ وَهو "يَكْلِمُ" الأرض، عنف الصيّاد المؤسِف وَهو يقتل العصافير "ليحتفظَ بالشجرةِ لنفسه"، العنف الطبيعي للأفاعي،الحيوانات، الطيور ،الحشرات، والشمسِ والعاصفةِ والثلج. يعجّ العالمُ الطبيعيّ بالضواري وَالفرائس التي تشكّل حروبها ضرورةً للحفاظِ على توازنِ الطبيعة. هذا ما اكتشفه شار عندما كان طفلاً يؤدّي دورَ الضحيّة أوّلَ الأمر. على كلٍ، أدّت قراءته لفلاسفةِ ما قبلَ سقراط، وَبالأخصِّ هيراكليتس وَامبدكليس، إلى تمييزِ هذا النزاع كقوّةٍ كونية، أي جوهريّاً كقوةٍ أخلاقية . يقرُّ هيراكليتس أن الكونَ يشتملُ على صراع، وَأن العدالة ما هي إلا نزاع، وَالوجودُ بمجمله يتحددُ بالشقاق. وَيصرُّ على أن الإبداع يتمخّض عن صراعٍ متوازنٍ بين الأضداد. ما دامَ النزاعُ طبيعياً وَحتمياً، إذن ينبغي على الإنسانِ/الشاعرِ أن يستجيبَ بفعلِ مقاومة. "لن أكتبَ قصيدةً مذعنةً قَط" (حميّا وَسِر/ Fureur et mystèr) .
يقذف شار بثورته المضطرمة تجاهَ عالمٍ يُقتلُ فيه أطفالٌ أبرياء، وَيُعذِّبُ طغاةٌ وَيستبدون، وَتُستَبدَلُ عاداتٌ وَمعتقداتٌ ماضيةٌ بأنانيّةِ المذهبِ المادّي. أحياناً يتوجّبُ علينا الإنسحابُ مؤقتاً لنستردَّ قِوانا، علينا " الإنعزال" كما يحضّنا على ذلكَ في "نصيحة الحارس/"Conseil de la sentinelle ، أي أن نرفضَ نظامَ الاضطهاد برمته حتى نعيدَ بناءَ قدرتنا على التمرّد. وَليس في ذلك جُبنٌ، بل إدراكٌ للهشاشةِ الكامنةِ فينا جميعاً، وَالتي من الممكن أن تكون مثمرةً وَمندفِعةً شرط أن تتحدُ بشراسةٍ فاعِلة.
الشاعرُ نفسه مستضعِفٌ وَمُستَضعَف—كما هو شعره. وَإذا أخذنا بعينِ الإعتبار حقيقةَ أن شعرهُ مدفوعٌ برغبةٍ إيروسيّة لاتّحادٍ عنيفٍ مع المرأةِ، معَ الطبيعة، وَمعَ الشعر، قد نمضي بعيداً إلى وصفِ شعرِه بالسادومازوشيّ. تتحدّرُ عرّابةُ شار من عائلة محامي الماركيز دو ساد، وَخلال مراهقته اكتشفَ شار في مكتبتها بعضَ الرسائل الموقّعة تعودُ إلى "الماركيز المقدّس" أو ("رجل البنفسج" كما يدعو نفسه). دفعه ذلك إلى أن يقرأَ كتاب ساد وَيكتشفَ - لا الفيلسوفَ الإجتماعيّ الذي يشيد به العديد في وقتنا – بل بطلَ الرغبةِ الإيروسيّةِ عنيفاً، متنوِّعاً، وَمتناقضاً، يعتنقُ مفهوماً للطبيعةِ -يكادُ يكونُ عدميّاً- كضحيّةٍ لضراوةِ الرجل. وفي حينِ لا يجدُ هوسُ ساد بالثقوب،حقيقةً أم مختلَقَة، مكاناً في كتاباتِ شار، تحفل العديد من قصائده المبكّرة بتصويرِ الإيروسيّة كعمليّةِ قسوةٍ انعكاسية. وهو بعدَ مرحلته السورياليّةِ، تخلّى عن كثيرٍ من أفكاره السادّية، مستيقظاً على التناغمِ وَطاقةِِ الإنبعاث في الحُبِّ وَالطبيعة. بيد أن مفهوم الإنعكاسية ظلَّ يرفدُ جملةَ أعماله الناضجة.
افتُتن شار ، كأصحابهِ السورياليين في الثلاثينات، بأعمالِ فرويد التي منحت شرعيّةً تنظيريّةً للحركيّة في شعرِه، وَمكانته العاطفيةِ وَالفِكرية. على الشاعرِ في نظرِ شار أن يصنّف نفسَهُ ضحيّةً وَ "مصدراً للخطَر" في الوقتِ ذاته. لهذا السببِ نَعَتُّ عملَه بالسادومازوشي- ليس بناءً على أيّ كتابة تتناولُ "انحرافاً" جنسيّاً، إنما على الطريقةِ التي يُوظَّفُ بها شعريّاً. في نظرِ فرويد، الفاعليّة وَالسلبيّةُ هما من الخصائص الكونيّة في الحياةِ الجنسية، والشهوة الجنسية هي التي تملي علينا ما نفعل وَنقرر. إذا كان شار يُمجّدُ ممارسةَ الحُبِّ لدى حشرةِ فرس النبي، حيثُ تقطعُ الأنثى رأسَ الذكرِ فورَ اكتمالِ العمليّة، فلا بُدَّ أنه يرى إلى نفسِه كذكرٍ "فاعلٍ" وَضحيّةٍ "سلبيّةٍ" للعنفِ الإيروسيّ. على كلِّ حالٍ، يوظّفُ الشاعرُ التضادَّ الفاعل/غير الفاعل الفرويدي بشكلٍ رئيسيٍ كنموذجٍ تنظيريٍّ لشعرٍ يتولَّدُ معناه من التوتّرِ الموجودِ في اللغةِ كما في الحياة: يتبدّى في مجملِ أعمالِ شار هذا الصراعُ المُبدِعُ بينَ الواجبِ الأخويِّ وَالرغباتِ الفرديّة، بينَ الإيروسيِّ وَالأخلاقي، بين العاطفيِّ وَالفِكري، بين الواقعيّ وَما وراءِ المادّة (الميتافيزيقيّ).
يعملُ العنف وَالرقّة جنباً إلى جنب أو ضدَّ بعضهما في نصوصه، وشيئاً فشيئاً تُجلِّي "الكلمةُ" الشعرية – اللوغوس- نفسَها كقوّةٍ متّقدة. الشمسُ ، لدى شار، مصدرُ عنفٍ، تلسعُ، تُبَخِّر ، تقتل، لكن الأهمَ أنها تُشكِّلُ مضادّاً نبيلاً للظُلم، فتحرر المضطَهَدَ من "طاعونِ المعرفةِ الضالّة". وَما دامت هذه "المعرفة الضالة" حتميّةَ المصير فالبشرُ في حاجةٍ إلى تحريرٍ، لا إلى حُرّية. يؤمنُ شار – مثل غايد وسارتر وإن على نحوٍ مختلف – بأنَّ الحُرّية عمليةٌ مُستمرّة، وَليست وضعاً ثابتاً نحوزه مرّةً وَإلى الأبد.
وَلعله من قبيلِ التناقضِ أن ينبعَ التحريرُ من قبولٍ فاعلٍ بالإختلافِ، لا من اعتقادٍ أوحدٍ بما هو حقٌّ وَعدل. في الكونِ الذي تتناوله قصيدة (زوّارُ الفجر/ Les Matinaux) ، تُقتَلُ الطيورُ التي تُضيءُ عالمنا، وَالأشجار التي تبذلُ فيئاً دفيئاً تُشعَلُ برصاصِ الصيّاد في (احتفالٌ بالأشجارِ وَالصيّاد/'Fête des arbres et du chasseur)؛ الكِلاب الوفيّة تُعَذَّب (الشفافيّة/'Les Transparents') ؛ النوافذُ فواتحُ وَمرايا (زجاجُ النافذة/'Le carreau')؛ الجبالُ عدوانيّةٌ وَسخيّة، الأنهارُ تُخفي وَتُبدي، مجدبةٌ وَخصبة، غير أنَّ عنفَها سحريٌّ دائماً (هذا الحب المفقود/'Cet amour à tous retiré') . يُؤكِّدُ شار، في رسالةٍ مفتوحةٍ إلى "جورجيس باتيلي" أنَّ هذا العالم الحديث لن يكتشفَ "التناغمَ النسبيَّ بتنوّعهِ المتأجج" حتّى يتمّ التأمّل في "مشكلةُ التباينِ" بشكلٍ جدّي. وَسابقاً،في مقالٍ موجزٍ حول هيراكليتس، يتحدّثُ عن "اتّحادِ الأضداد البهيج" وَهو "الأساسُ الضروريُّ المثمرُ للتناغم." رغم أنَّ اهتمامه الدائمَ بالتضادِّ وَالعلاقاتِ الجدلية ترسّخَ لاحقاً بقراءاته لهيراكليتس، وَساد، وَهيغل، وَفرويد، وَهايدغر، إلا أن جذورَ هذا الإهتمامَ تعودُ إلى مراقبةِ شار للعالم الطبيعيِّ في طفولته.
أشدُّ ما يتجلّى ذلكَ في قصيدته "احتفال/ Fête" ، التي نُظِمَت في مقاتليّ المقاومة، "الماكيين" *، الذين لم يتمكنوا من العودةِ إلى إسبانيا بعدَ تحرير فرنسا. جعلَ أسلوبها سهلاً ليتيسّر على حدّائي العصرِ الحديث حفظها وَغناؤها، وَالقصيدةُ تستعرضُ سلسلةً من الصورِ التي تؤكِّدُ على التناقضاتِ المتنازعة في الطبيعة، وَعلى الطبيعةِ البشريّةِ بشكلٍ جوهري. دونَ قصدٍ يدمّرُ "الصياد الكئيب" الغابةَ التي يُحبُّ والتي هي سُكْنى فريسته. في حين أُوِّلت القصيدةُ غالباً كإدانةٍ لتدخّل الإنسان في الطبيعة، تنطقُ "احتفال" وَتؤدّي ما هو أكثر من ذلك: هذه الحكايةُ الرمزية (allegory) ذاتِ الخصائصِ "الشاريّة" تتحدّثُ عن الخَلْقِ الشعريِّ بقدر ما تتحدثُ عن العنفِ وَالقتل اللذَين يدمغان السلوكَ الحيوانيَّ وَالبشري. الصيّادُ كئيبٌ لا لأنه عازمٌ على القتلِ من أجلِ أن "يحتفظَ بالشجرةِ وَحزنِها الطويل لنفسه"، بل لأنّهُ لا يجرؤ على اتّخاذِ فعلٍ حاسمٍ بصدقٍ مُطلِقاً بذلكَ الإبداعَ الكامنَ في الوجودِ كلّه.
وحين يطلقُ نارَه أخيراً، تشعلُ رصاصتهُ صدفةً الحرائقَ في الغابة. لكنَّ اللهبَ – رغمَ التهامِهِ كلَّ شيءٍ – مشرِقٌ قبلَ أي اعتبارٍ آخر. مثلَ أقوالِ الحِكَمِ في "الراؤون"، ترفضُ هذه الحكاية الرمزية تزّمتَ الحكايا التقليدية وَتتحدّاها، متساميةً بالمنطقِ المألوف. يحيلُ شعرُ شار المادّةَ إلى ضوءٍ متوهّجٍ، كما يقوِّضُ العالم من أجلِ إعمارهِ بشكلٍ أجمل، مثلَ فراشةِ غوته التي تموتُ لتتجلّى في لهبِ الشمعة. يقابلنا اللهبُ كصورةٍ محوريّةٍ في مجملِ أعماله، أَكان النارَ التي تتوهّجُ فجأةً في غرفةِ والده فتلهمه ليكتب، أو وميضَ البرقِ الزائلَ وَالدائمَ في الآنِ ذاته الذي ينيرُ ظلمتنا، أو حريقَ الغابةِ الذي يرجئ الموتَ بنوره، أو إشعالَ الحقول المحصودة الذي يبشِّرُ بميلادٍ جديدٍ أقوى. في "نحوَ سكونٍ أشدّ/ À une sérénité crispée" ، يؤكِّدُ شار أنَّ: "الجمالَ يضرمُ النارَ في كلِّ حزمةٍ من ظلمتنا التي ينبغي إشعالها". وَيتساءلُ في "رسالة سيبيريّة/'Note sibérienne'" (أعشابُ صيد-1975/ Aromates chasseurs) : "لمَ هذا التكرارُ إذن: نحنُ شرارةٌ مجهولةُ الأصل، نشعلُ النارَ أمامنا دائماً. هذه النار، هل نسمعُ زفيرها أو أنينها إذ تلتهمنا ؟ لا شيء، فيما عدا أننا نتعذّبُ إلى درجةِ أنَّ الصمتَ الشاسعَ في كبدِها ينشطر". في "قصيدةٌ مسحونة/ Le poème pulvérisé" يترنَّمُ بـ"الشرارةِ البدويّة التي تفنى في نارِها." الموتُ وَالحياةُ لا يُدرَكان كحَلََقةٍ بسيطة: في حينِ يستمدُّ شار صورَهُ من الطبيعة، لا يبدي اقتناعهُ أبداً بحَلَقةِ "الحياة-الموت-النشور" التي رسّختها الثقافةُ الغربية كأكثرِ تفسيراتِ الوجودِ تفاؤلاً. إذا ما كان شعرهُ وَفِكره متطرفانِ، فلأنهُ يرى الوجودَ غيرَ مقيَّدٍ باستبدادِ الزمان، أو أقلّه، لا يُفترض به أن يكونَ كذلك دائماً. ما ينبغي علينا استبقاؤه من الماضي هو لحظاتُ التسامي وَالتجلّي فقط، ملتفتينَ إلى ما يخبرنا به التراثُ المسيحي بأن تجلّيَ المسيحِ لم يكشف عن ألوهيته فحسب، بل تنبَّأَ بموتِه المعنويِّ أيضاً. الذاكرة ُ "حليفُ الموتِ الأكبر"، ذلكَ أنها تحرمنا من التطلّعِ بفاعليّةٍ للحظاتِ التي قد يتقاطعُ فيها الزمانُ الأفقي بالزمانِ العموديِّ الأبديّ، حينَ يتوهَّجُ العالمُ مُشرِقاً. هذا هو التناغمُ الذي يتقصّاهُ شار في شعرِه وَيخلقه وَيدعو إليه، ومنه يأتي تأكيدهُ على صورٍ مثلِ النَّجْدِ الذي هو ذروةٌ في سيرورةِ التكوّنِ لا نقطةٌ مرتفعةٌ بشكلٍ مؤقت، أو وميضِ البرق الذي يكشفُ عن ديمومةِ الإشراقِ في الجزءِ من الثانيةِ الذي يستغرقه.
في "نهر سورج: أغنيةٌ لـ إيفون/ 'La Sorgue' " (من: الينبوعُ السارِد-1947/ La fontaine narrative ) ، يتغنّى شار بـ"النهرِ حيثُ ينتهي البرقُ وَيرتقي منزلي/ على عتباتِ الغفلةِ مدحرِجاً حصى عقلي." نهرُ سورج الذي ينبعُ من Fontaine de Vaucluse مُحيطاً بِـ L'Isle-sur-Sorgue من جهاتٍ ثلاث، هذا النهرُ حقيقيٌّ وَرمزٌ أسطوريٌّ في آن، لكنّهُ فوقَ ذلك وجودٌ مطّرِدٌ يذكِّرُ الشاعرَ أن كلَّ الأشياءِ مُرَكَّبة، وَأن علينا اتّخاذَ موقفٍ متمرّدٍ وَأخويٍّ معاً. لقرونٍ عِدّةٍ ظلَّ نهر "سورج" يرفدُ المدينةَ كلَّها التي كانت تعتاشُ من صيدِ الأسماك، لكنها أُركِسَت فيما بعد بالتلوِّث الصناعي الذي سببهُ مصنعُ الورق؛ ما تزالُ مياهُ النهرِ شفافةً بدرجةٍ مدهشة لكنها باتت تشكّلُ خطراً؛ أصبحَ النهرُ رمزاً للموتِ والَبقاء. تختتم القصيدةُ بابتهالٍ إلى نهرِ سورج يلخِّصُ موقفَ شار الأخلاقي: "اجعلني عنيفاً وَصديقاً للنحلاتِ في الأفق."
اللغةُ الشعريةُ هي اللغةُ الأكثر تحدّياً وَإقلاقاً، من حيث أنها تجمعُ النقائضَ، كما تتقصّى وَتشهرُ بوعيٍ صمتَها وَقصورها وَغزارتها واحتمالاتِه، وَفي الوقتِ ذاته تنقشُ ذاتها –بشكلٍ لا مردَّ له لكن طوعاً – في تاريخِ فِكرٍ سابِق. لعلَّ الشعرَ الفرنسيَّ الحديث أشدُّ تناصّاً بجلاءٍ من أيِّ شعرٍ آخر منذُ عصر النهضة، ذلكَ أن الماضي يمتزجُ بالحاضرِ بامتنانٍ وَبقدرٍ من القمع، فيما يسعى الشعراءُ لتعيينِ فضائهم الخاصّ. موقفُ شار العنيد دفعه في أحايينَ إلى مهاجمةِ الشعراءِ الذين وقعوا في نظرهِ في تلاعبٍ لفظيٍّ محض. بالنسبةِ إليه، ينبغي للشعرِ أن يكونَ جوهريّاً، أي محوريّاً في حياتنا، لا مُجرَّدَ زخرفٍ هامشيّ. ولهذا السببِ يلحُّ على إعادةِ الشعرِ في الثقافةِ المعاصرةِ من طريقِ حضّنا على القراءةِ المتنوِّعة، لنتعلَّمَ دروس المفكرينَ الأخلاقيين الماضين. إذا كان من جملةٍ تعبّرُ عن موقفِ شار أبلغَ تعبير، فهي شذرتهُ المفضّلة التي قالها هيراكليتس متنبِّأً برؤى هايدغر حول التشابه وَالإختلاف: "أنتَ لا تطأ النهرَ ذاته مرتين". كلُّ تجربةٍ نمرُّ بها، سواءً كانت تجربةً معَ الحُبِّ أو الطبيعةِ أو الشعر، هي تِكرارٌ لما سبق، لكنّها ابتكارٌ دائماً.
سؤالُ "هولدرلين" الجوهريِّ – والذي تناولهُ "هايدغر" بحذق في محاضرته المذهلة عن "ريلكه" عام 1946- "ما الحاجة إلى الشعراء في زمنٍ مُجدب؟/'Wozu Dichter in dürftiger Zeit' " ، هذا السؤالُ القلِقُ طرحه شار مراراً على نفسه وَعلى قرائه. مثلَ هولدرلين، يرى إلى الشاعرِ كـ"كاهنِ اللا مرئيّ". وَمثلَ هايدغر، يؤمنُ بالشعرِ كتجديدٍ للتجربةِ وَمركزٍ للحقيقة، أو لنكونَ أدقّ، مركزٍ لـ إلثيا alethia (الكَشفِ أو السفور). على كلِّ حالٍ، فيما المقدَّسُ دائمُ الحضورِ في عمله، ومع أنه يستحقُّ لقبَ "شاعرِ ما بين الزمان" الذي أسبغه هايدغر على هولدرلين، إلا أنَّ لإلحاحِ شار على قيمةِ الشعراءِ وحاجتِنا إليهم بُعداً سياسياً، إذ من واجبِ الشعراءِ أن يميطوا اللثامَ عن الحقيقة، ولهذا عليهم مواجهةُ كلِّ أنظمةِ الطغيان التي تصوغُُ العالمَ الذي يعيشون فيه وَيكتبون. على الشاعرِ أن يتحلّى بشجاعةٍ وَاستقامةٍ (بل شراسةٍ أيضاً) أخلاقية، وَبناءً عليه أن يصدرَ حكمه. إلا أنَّ هذه الفضيلة الإجتماعية يجبُ أن تتخللها لحظاتٌ من الإشراق، تلاعبٌ لونيٌّ بالقاموسِ وَالفلكلور. يتفقُ شار مع رؤيةِ هولدرلين حولَ الفرقِ بين الفضيلةِ (merit ) وَالشعر، لكنهُ يدنو أيضاً من موقفِ والاس ستيفينز، مؤمناً أنَّ الفضيلةَ الأصيلة ليست خصيصةً ذاتيّة، بل علينا أن نمخرَ عبابها بالتجاربِ الشخصيةِ الحيّة. هذا هو أحدُ أسبابِ إعجابهِ بفنانين مثل بيكاسو وَبراك وَارباد زينس ، ذلكَ أنَّ لوحاتهم تزاوجُ بينَ العقلِ وَالعاطفة، بينَ الخطِّ وَاللون. الأهمُّ أن على الشعرِ استغلالَ طاقتهِ ليكشِف. كما يقول في جملته الأخيرة في (احمرارُ زوّارِ الفجر/ 'Rougeur des Matinaux') : "باختصارٍ: إن أردتَ أن تهدِم، ليكن ذلكَ بأدواتٍ احتفاليّة."
مشبوباً بإحالاتٍ لأعمال الماضين وَأفكارِهم، يستدعي شعرُ شار قراءةً تتضمَّنُ المعرفةَ المحليّة وَالشخصية وَتتجاوزها أيضاً إلى ما هو أبعد، قراءةً تتقبّلُ فكرةَ أنْ ليسَ في وسعنا أن نفهم فهماً شاملاً إلا بالإستغراقِ في ما تمَّ تهيئته لنا. في "هذا الحب المفقود/ 'Cet amour à tous retiré' " من Les Matinaux ، يقابلنا هذا المقطع:
كانَ العنفُ سحريّاًً؛يموتُ رجلٌ أحياناً،وفيما يخطَفهُ الموت،يختمُ أثرٌ من الكهرمان عينيه.
العنف، الموت، التحوّل السحري: هذه الثيمات "الشاريّة" الثابتة تتجلّى هنا ببساطةٍ في مقطعٍ شعريٍّ واحدٍ، لا يضعُ أمامَ القارئ أدنى صعوبةٍ تأويليّة. فيما عدا التساؤل... لماذا الكهرمان ؟ الأغلبيةُ منا تعرفُ النزرَ اليسير عن أهميته الشعائريّة، إلا أنَّ توظيف شار له محسوبٌ بحيثُ يفعّلُ تداعياته الثقافية المتعددة. نعرفُ، منذ طاليس في القرنِ السادس قبل الميلاد، أنَّ للكهرمان (يُسمّى الكترون عندَ الإغريق) خصائصَ مغناطيسية- فهو يمتصُّ الشحنات الكهربائيةَ الزائدة ممن يدعكه. دموعُ الكهرمان التي سكبها أبولو حين نُفيَ من جبلِ الأوليمبوس ترمزُ إلى حنينهِ إلى فردوسٍ مفقود وإلى الوعدِ بالجنّة. حُفِظَت حشراتُ ما قبلَ التاريخ (وَجُعلَت جميلةً) بالكهرمان، لذا استخدمهُ المصريون في عمليّاتِ التحنيط. ترى الأقوام السلتيّة وَالمسيحية إلى الكهرمان كرمزٍ للروحانيّةِ وَالقداسة. الكهرمان متنوّعُ المعاني وَمتعددُ الثقافات، مثلَ عديدٍ من الرموز التي يوظّفها شار. مما يعني أن القرّاءَ لن يستقرّوا على معنىً ثابتٍ واحد، وَسينتجبونَ أحدَ ظلال المعاني المحتملة دونَ غيرِها في كلِّ قراءةٍ تالية. مثلُ هذا التجريد في مفهومِ المُلكيّةِ النصيّة هو أحدُ سماتِ أعمال شار، ذلك أنه يقبلُ القارئ كشريكٍ في خَلْقِ قصائدهِ وَيأملُ في الآنِ ذاته دفعَهُ لسبرِ استجاباتهِ تجاهَ نصوصٍ بسيطةٍ في ظاهرِها، فيما هيَ متقلّبةٌ على نحوٍ إبداعيٍّ واقعاً. رغم أن شار لا يستسيغ مصطلحَ "حكمة aphorism " ، مفضّلاً التعبيرَ المحايدَ "نصٌّ قصير"، إلا أنَّ قوله الشِعري يتّسمُ بالقوّةِ الجدلية للحكمة الـ"ما قبل- سقراطية" من حيث أنها تزاوجُ ما بين الصريحِ وَالمضمر، ما بين الإنسجام والإنفصام. وعليه، تستدعي كتاباته من القرّاءِ قبولَهم في أن يكونوا في الوقت نفسه، ضحايا وَمنفّذين لعنفٍ "احتفاليّ" (مفتعلةً مشاكلَ لكلّ مترجم!) .
إذا كانت صور شار الشعرية مستوحاة من موطنه الأصلي؛"بروفنس"، فإن تفكيره بعيداً من أن يكون ذا مركزية أوروبية، ويعود السبب الأكبر ربّما إلى إحتكاكه برسّامين "متفرنسين" من قاراتٍ أخرى؛ مثل "ويفريدو لام" وَ "زاو وو-كي". وبحكم مقروئيةِ شار الواسعة، يصبحُ من الصعبِ معرفةُ لمن قرأَ شار ولمن لم يقرأ تحديداً، لكن من المثيرِ للإهتمامِ أن شاعريته، على غرارِ أفكاره الفلسفية، شبيهةٌ بشاعريّةِ اوكتافيو باز، الذي كتبَ في "القوس وَالقيثارة":
يبدأُ الخَلْقُ الشعريُّ كعنفٍ تجاه اللغة. الفصلُ الأولُ من هذه العمليّة هو اجتثاثُ الكلماتِ من جذورها. ينتزعها الشاعر من روابطِها وَوظائفها المألوفة: منبتّةً عن عالمِ الكلامِ غيرِ ذي شكل، تصبحُ الكلماتُ متفرّدةً، كما لو أنها وُلِدَتْ توّاً. الفصلُ الثاني هو عودةُ الكلمة: تصبحُ القصيدةُ موضوعَ مشاركة. تسكنُ قوّتان متضادتان القصيدة: قوةُ ارتقاءٍ أو اجتثاثٍ تنزعُ الكلمةَ من اللغة؛ وَقوّةُ جاذبيةٍ تعيدها إليها. القصيدةُ خلقٌ أصيلٌ وَمتفرّد، لكنها أيضاً تلاوةٌ وَقراءة: مشاركة. الشاعرُ يخلقها؛ وَالناسُ تعيدُ خلقَها بتلاوتها. الشاعرُ وَالقارئ حَدَثان في حقيقةٍ واحدة. من طريق تبادل دوريهما على نحوٍ يصحُّ تسميته لولبياً، ُفإنّ دورانهما يولِّد الشعلةَ: الشعر.
شعر شار يبدأ بالعنف- في غضبهِ العادلَ تجاه كلِّ خيانةٍ للحريّة، وفي عزمه تحريرَ اللغةِ من قيدِ الإستعمال المتداول. وَينتهي بفعل القراءة "اللا متناهية"، التي لا بدّ أنها تقرّ بأن العالمَ متعددٌ في وجودهِ، بفضيلةِ الإنقسامِ وَالتضاد.
...




لوحة : علي التاجر - العراق